فصل: (مسألة: فيما يتيمّم به)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: فيما يتيمّم به]

ولا يجوز التيمّم إلا بالتراب الذي له غبارٌ يعلق في العضو، وبه قال أحمد، وداود.
وقال أبو حنيفة: (يجوز التيمّم بالتراب، وبكل ما كان من جنس الأرض، كالكحل، والنّورة، والزرنيخ، والجصّ). والغبار عنده ليس بشرط، بل لو ضرب يده على صخرة ملساء، أو حائطٍ أملس.. أجزأه. وأما الشجر والذهب، والفضة والحديد، والرصاص..فلا يجوز التيمّم به.
وقال مالكٌ: (يجوز التيمّم بالأرض، وبما كان متصلاً بالأرض، كالأشجار) ويجوز التيمّم عنده بالملح.
وقال الثوري، والأوزاعي: (يجوز التيمّم بالأرض، وبكل ما كان عليها، سواءٌ كان متصلاً بها، أو غير متَّصلٍ). وهذا أعمُّ المذاهب.
دليلنا: ما روى حذيفة بن اليمان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فضلنا على النّاس بثلاث خصال: جعلت الأرض لنا مسجدًا، وترابها لنا طهورًا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة». فخصَّ ترابها بجواز التيمّم، فدلّ على: أنه لا يجوز بغيره؛ ولأنه طهارةٌ عن حدثٍ فاختصّت بجنسٍ طاهرٍ، كالوضوء، وفيه احترازٌ من الاستنجاء والدّباغ.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يجوز التيمّم بالتراب من كلّ أرضٍ: سبخها، ومدرها، وبطحائها).
فأما (السّبخ): فهي الأرض المالحة.
وحكي عن بعضهم: أنه قال: لا يصح التيمّم به. وهذا ليس بصحيح؛ لـ: «أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتيمّم بتراب المدينة»، وهي أرضٌ مالحةٌ.
وأما (المدر): فهو التراب الذي أصابه الماء، فاستحجر وخفّ، فإذا سحق.. صار ترابًا.
وأمّا (البطحاء): ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه القضّ من الأرض.
والثاني: أنه التراب المستحجر.
وهل يجوز التيمّم بالطين الأرمنيّ، والتراب المأكول؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه يجوز التيمّم؛ لأنه ترابٌ.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه مأكولٌ.

.[فرع: التيمّم بالرمل]

قال في "الأم" [1/43] (ولا يجوز التيمّم بالكثيب الغليظ)، وقال في " الإملاء ": (يجوز التيمم بالتراب، والرّمل). وقال في القديم: (يجوز التيمّم بالرّمل).
واختلف أصحابنا في التيمّم بالرمل: فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على الحالين:
والذي قاله في "الأم" في الكثيب الغليظ، أراد به: الرّمل الذي لا يخالطه التراب.
والذي قاله في " الإملاء " والقديم أراد به: الرّمل الذي يخالطه التراب.
وقال ابن القاصّ: بل في الرّمل قولان:
أحدهما: يجوز التيمّم به؛ لما روى أبو هريرة: «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنا نكون بأرض الرّمل، وتصيبنا الجنابة، والحيض، والنفاس، ولا نجد الماء أربعة أشهر، أو خمسة أشهر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عليكم بالأرض».
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب، فأشبه الحجارة المدقوقة، وأما حديث أبي هريرة: فمحمول على رمل يخالطه تراب؛ لأن العرب لا تغرب إلا إلى أرض بها نبات، والرّمل لا ينبت إذا كان لا تراب فيه.
وإن أحرق الطين وتيمّم بمدقوقه.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه يقع عليه اسم التراب.
والثاني: لا يصح، كما لا يصح بالخزف المدقوق.

.[فرع: التيمّم بالطين والتراب النجس]

قال في "الأم" [1/43] (ولو لطخ على وجهه الطين.. لم يجزه)؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب، ولما روى عكرمة: أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سئل عن رجل في طين، لا يستطيع أن يخرج منه؟ فقال: (يأخذ من الطين، فيطلي به بعض جسده، فإذا جفّ.. تيمّم به). ولا يعرف له مخالف. فإن خاف فوت الوقت قبل أن يجفّ.. كان بمنزلة من لم يجد ماءً ولا ترابًا، ويأتي حكمه.
ولا يجوز التيمّم بتراب نجس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
و (الطيب): يقع على ما تستطيبه النفس؛ كقولهم: هذا طعام طيب.
ويقع على الحلال، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] يعني: الحلال. ويقع على الطاهر.
ولا يجوز أن يكون المراد بالآية ها هنا: ما تستطيبه النفس، ولا الحلال؛ لأن التراب لا يوصف بذلك، فثبت أنه أراد به الطاهر. ولأنه طهارةٌ، فلا تصح بنجس، كالوضوء.
ولا فرق بين أن يكون التراب الذي خالطته النجاسة قليلاً أو كثيرًا، بخلاف الماء؛ لأن للماء قوة تدفع النجاسة عن نفسه.
وإن خالط التراب ذريرةٌ أو نورةٌ أو دقيقٌ، فإن استهلك التراب في هذه الأشياء، وغلبت عليه.. لم يجز التيمّم به بلا خلاف على المذهب. وإن استهلكت هذه الأشياء في التراب، وغلب عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: يجوز التيمّم به، كما تجوز الطهارة بالماء الذي خالطه مائعٌ واستهلك المائع فيه.
والثاني: لا يجوز، وهو المذهب؛ لأن المخالط للتراب يمنع من وصول التراب إلى العضو، والمخالط للماء لا يمنع من وصول الماء إلى العضو؛ لأن الماء يجري بطبعه.

.[فرع: تيمّم الجماعة في مكان وصورٌ أخرى]

ويجوز أن يتيمّم الجماعة من موضعٍ واحد، كما يجوز أن يتوضأ الجماعة من ماء في إناءٍ واحدٍ.
وإن ضرب يديه على بدنه، أو ثيابه، أو آذانه، أو رأسه، أو ظهره، فعلق بهما غبارٌ، فتيمّم به.. صحّ.
وقال أبو يوسف: لا يصحّ.
دليلنا: أنه يقع عليه اسم التراب، وهو طاهرٌ غير مستعمل، فصحٌ تيمّمه به، كما لو أخذه من الأرض.
وإن تيمّم، فبقي على أعضاء التيمّم غبارٌ من التيمّم، فتيمّم هو به، أو غيره.. لم يصح تيمّمه؛ لأنه مستعمل في التيمّم، فلم يصح التيمّم به، كما لو أخذ الماء من وجهه أو يديه، ومسح به رأسه.
ولو علق على وجهه ترابٌ من غير التيمّم، فمسح به وجهه من غير أن ينقله عنه.. قال المسعودي [في "الإبانة" ق\35] لم يصح تيمّمه.
وإن أخذه من وجهه، ثمّ أعاده إليه.. فهل يصح تيمّمه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لو مسحه عليه من غير أن ينقله.
والثاني: أنه يصح، كما لو وقع على غير الوجه، فنقله منه إلى وجهه.
وإذا قلنا بالأول، وعلق على يديه ترابٌ من غير التيمّم، فأخذه ومسح به وجهه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه نقله من موضع الفرض، فهو كما لو نقل منه ما بقي عليه من التيمّم.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأنه غبار ترابٍ طاهرٍ غير مستعملٍ، فهو كما لو أخذه من بطنه أو ظهره.
وإن تيمّم بما يتناثر من أعضاء المتيمّم من الغبار من التيمّم، أو تيمّم به غيره.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن المستعمل من التراب ما بقي على أعضاء التيمّم، دون ما تناثر.
والثاني: لا يصح، كما لا يصح الوضوء بما تساقط من الماء عن أعضاء الطهارة؛ ولأنه لو مسح يديه بالضربة التي مسح بها وجهه..لم يصح وإن كان قد بقي فيهما غبارٌ، فلأن لا يصح فيما تناثر من الوجه أولى.

.[مسألة: هل يرفع التيمّم الحدث]

التيمّم لا يرفع الحدث.
وقال داود وشيعته، وبعض أصحاب مالك: (التيمّم يرفع الحدث). وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأنها طهارةٌ عن حدث تستباح بها الصلاة، فوجب أن يرفع الحدث، كالطهارة بالماء.
ودليلنا: ما «روى عمرو بن العاص قال: كنت في غزوة ذات السّلاسل، فأجنبت في ليلةٍ باردةٍ، فأشفقت على نفسي، إن اغتسلت بالماء.. هلكت، فتيمّمت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا عمرو: صلّيت بأصحابك وأنت جنبٌ؟ فقلت: سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئًا».
ففي هذا الخبر فوائد.
منها: أنّ التيمّم يجوز لخوف التّلف من البرد.
ومنها: أنّ الجنب يجوز له التيمّم.
ومنها: أنّ الجنب إذا صلى بالتيمّم في السفر.. لا إعادة عليه.
ومنها: أنّ من تيمّم لأجل البرد في السفر.. لا إعادة عليه.
ومنها: أنّ التيمّم لا يرفع الحدث؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جنبًا مع علمه أنه قد تيمّم.
ومنها: أنه يجوز للمتيمّم أن يؤم المتوضئين؛ لأن أصحابه كانوا متوضئين.
ومنها: أنّ هذا المتلو كلام الله؛ لأن عمرًا قال: سمعت الله تعالى يقول، ولم يسمع إلا المتلوّ.
ومنها: أنّ الجنب إذا تيمّم.. يجوز له أن يقرأ في غير الصلاة؛ لأن عمرًا قال: سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن الدليل على أن التيمّم لا يرفع الحدث: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذرّ: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، وإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته». فلو ارتفع حدثه..لم يجب عليه استعمال الماء.

.[مسألة: نية التيمّم]

ولا يصح التيمّم إلا بالنية.
وقال الأوزاعي، والحسن بن صالح: يصح من غير نية.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]. والتيمّم في اللغة: القصد. والنية: هي القصد أيضًا.
إذا ثبت هذا: فإن نوى بتيمّمه: رفع الحدث، وقلنا: إن التيمّم لا يرفع الحدث.. ففيه وجهان:
أحدهما: ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يصح تيمّمه؛ لأن التيمّم لا يرفع الحدث، فقد نوى ما لا يفيده.
والثاني ـ حكاه في "المهذب" ـ: أنه يصح؛ لأنه يتضمن استباحة الصلاة.
وإن نوى بتيمّمه استباحة الصلاة المفروضة، أو نوت الحائض إذا انقطع دمها: استباحة الوطء.. صح التيمّم؛ لأن التيمّم يراد لذلك.
وإن نوى بتيمّمه استباحة صلاةٍ نافلة.. صح تيمّمه على المذهب؛ لأن كلّ طهارة صحت بنية استباحة الفرض.. صحت بنية استباحة النفل، كالطهارة بالماء.
وحكى الطبري: أن ابن القاص قال: لا يصح تيمّمه؛ لأن التيمّم طهارة ضرورة، ولا ضرورة به إلى النفل.
فإذا قلنا بالأول، ونوى بتيمّمه استباحة الصلاة، ولم ينو الفريضة، أو نوى صلاة نفلٍ..استباح به النّفل. وهل يستبيح بذلك التيمّم صلاة الفرض؟ فيه طريقان:
الأول: قال عامة أصحابنا: لا يستبيح به الفريضة قولاً واحدًا.
والثاني: قال المسعودي [في "الإبانة" ق\15]، وأبو حاتم القزويني: هي على قولين:
أحدهما: يستبيح به الفرض، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن كل طهارة استباح بها النّفل.. استباح بها الفرض، كالطهارة بالماء.
والثاني: لا يستبيح به الفرض، وبه قال مالك؛ لأن التيمّم لا يرفع الحدث، وإن استباح به الصلاة.. فلم يستبح به ما لم ينوه، بخلاف الطهارة بالماء.
فإذا قلنا بهذا: أنه لا يصح تيمّمه للفرض حتى ينويه.. فهل يفتقر إلى تعيين الفريضة بنية التيمّم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى ذلك، لأن كل موضع افتقر إلى نية الفرض.. افتقر إلى تعيين الفرض، كالإحرام في الصلاة، ونّية الصّوم.
والثاني: لا يفتقر إلى ذلك، وهو ظاهر النّصّ؛ لأن الشافعي قال: (وينوي بتيممه الفريضة). وأطلق، ولم يشترط التعيين. وقال في " البويطي ": (فلو تيمّم ونوى المكتوبتين.. لم تجزه إلا لصلاةٍ واحدةٍ). ولو كان التعيين شرطًا.. لم تجزئه لواحدةٍ منهما، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة لا يحتاج إلى تعيينها، فلم يفتقر إلى تعيين المستباح.
وإذا نوى بتيمّمه استباحة فريضةٍ ونافلةٍ.. جاز له أن يصلي به الفريضة التي نواها، ويصلي به ما شاء من النوافل قبل الفريضة وبعدها، في وقتها وفي غير وقتها؛ لأنه قد نوى استباحة النّفل بتيمّمه، والنفل لا ينحصر.
وإن نوى بتيمّمه استباحة فريضةٍ، ولم ينو النفل..فهل يستبيح به النفل؟
قال المسعودي [في "الإبانة" ق\15] فيه قولان.
وقال البغداديون من أصحابنا: يستبيح به النفل قولاً واحدًا؛ لأن الفرض أعلى من النفل، فإذا استباح الفرض بتيمّمه.. استباح به النفل.
فعلى هذا: له أن يصلي به النفل بعد الفريضة، ما دام وقتها فيها باقيًا على سبيل التبع لها. وإن خرج وقت الفريضة..فهل له أن يصلي النّفل بذلك التيمّم؟
فيه وجهان؛ حكاهما المحاملي:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن النافلة من أتباع الفريضة، فلم تصح له النافلة بذلك التيمّم بعد ذهاب وقت المتبوع.
والثاني: يجوز؛ لأنها طهارة استباح بها النفل في وقت الفريضة، فاستباح بها النفل بعد خروج وقت الفرض، كالوضوء.
وهل له أن يتنفل بذلك التيمّم قبل صلاة الفريضة؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز؛ لأن كل طهارة جاز له أن يتنفل بها بعد الفريضة.. جاز له قبلها، كالوضوء.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه إنما استباح النافلة بهذا التيمّم تبعًا للفرض، فلا يجوز أن يتقدم التابع على المتبوع.

.[فرع: ما يفعل بنّية النفل]

وإن نوى بتيمّمه استباحة صلاة النفل.. جاز له أن يصلي به على الجنازة إذا لم تتعيّن عليه؛ لأنها كالنافلة. ويستبيح به مسّ المصحف وحمله.
وإن كان جنبًا، أو حائضًا، ونوى التيمّم للنافلة.. استباح به قراءة القرآن، واللبث في المسجد، والوطء؛ لأن النافلة أكد من هذه الأشياء، لأن الطهارة شرط فيها بالإجماع، والطهارة مختلف فيها لهذه الأشياء، فإذا استباح النافلة.. استباح ما دونها.
وإن نوى بتيمّمه استباحة هذه الأشياء.. فهل له أن يصلي به النفل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يستبيح به النفل؛ لأن هذه الأشياء نوافل، فاستباح صلاة النفل بالتيمّم لهذه الأشياء.
والثاني: لا يستبيح به صلاة النفل؛ لأنها آكد في باب الطهارة، على ما تقدم.

.[مسألة: كمال كيفية التيمم]

وإذا أراد التيمّم.. فإنه يسمي الله تعالى، كما قلنا في الوضوء، وينوي على ما مضى، ثمّ يتيمّم.
والكلام فيه في فصلين: في الاستحباب، وفي المجزئ منه.
فأما الاستحباب: فإن المزني روى: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر " (1/28) قال: (يضرب على التراب ضربةً، ويفرق بين أصابعه). وقال في موضعٍ آخر: (يضع يديه على التراب).
قال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما أراد بقوله (يضع يديه): إذا كان التراب ناعمًا دقيقًا؛ لأنه يعلق غباره من غير ضربٍ.
وأما إذا كان التراب غير ناعمٍ.. فإنه يضرب ويفرق بين أصابعه؛ لأنه لا يعلق الغبار بكفيه إلا بالضرب.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\35] لا يفرق بين أصابعه في الضربة الأولى؛ لئلا يحصل التراب بين أصابعه في الأولى، فيكون ماسحًا لجزء من يديه قبل وجهه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن حصل على كفّيه تراب كثير.. نفخ التراب؛ ليخففه من على يديه، ويبقي عليهما أثره)؛ لما «روى أسلع، قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا جنب، فنزلت آية التيمّم، فقال: يكفيك هكذا:فضرب بكفيه الأرض، ثمّ نفضهما، ثمّ مسح بهما وجهه، ثمّ أمرهما على اللحية، ثمّ أعادهما إلى الأرض، فمسح بهما الأرض، ثمّ دلك إحداهما بالأخرى، ثمّ مسح ذراعيه: ظاهرهما وباطنهما».
وإنما نفضهما؛ لأنه علق بهما غبار أكثر مما يحتاج إليه فخففهما، ثمّ يمسح بيديه على وجهه الذي وصفناه في الوضوء، ويمرهما، على ظاهر شعر الوجه.
وهل يجب عليه إيصال التراب إلى باطن الشعر في الوجه الذي يجب إيصال الماء إليه في الوضوء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه ذلك، كما قلنا في الوضوء.
والثاني: لا يجب عليه، وهو المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف التيمّم، ومسح وجهه بضربة، وبذلك لا يصل التراب إلى باطن شعر الشارب، والعذار، والعنفقة وإن كان خفيفا. ويخالف الوضوء؛ لأنه لا مشقة عليه في إيصال الماء إلى باطن هذه الشعور، فوجب، وعليه مشقة في إيصال التراب إلى باطنها، فلم يجب.
ثم يضرب ضربة ثانية، ويفرق بين أصابعه. وإن كان عليه خاتم.. نزعه قبل الضربة الثانية؛ لئلا يمنع من وصول التراب إلى ما تحتها، فإذا فعل ذلك.. فقد سقط الفرض عن الراحتين، وعما بين الأصابع بما وصل إليها من التراب.
فإن قيل: إذا سقط الفرض به.. فقد صار مستعملا، فكيف يجوز مسح الذراعين به، وعندكم: لا يجوز نقل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى؟
فالجواب: أنه لو انفصل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى، لكان في صحة ذلك وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنهما كالعضو الواحد، ولهذا يجوز البداية بما شاء منهما.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح، كما لو انفصل الماء من وجهه إلى يديه.
فعلى هذا: الفرق بين الماء والتراب: أن الماء ينفصل من إحدى اليدين إلى الأخرى، والتراب لا ينفصل من إحداهما إلى الأخرى، ولأن هاهنا به حاجة إلى ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن ييمم ذراعا من يد بكفها، بل لا بد من كف أخرى، فصار ذلك بمنزلة نقل الماء في العضو الواحد من بعضه إلى بعض.
وأما مسح إحدى اليدين بالأخرى.. فذكر المزني [في " المختصر " 1/28-29] فيها ترتيبا، فقال: يضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى وأصابعهما، ثم يمرها على ظهر الذراع إلى مرفقه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن كف الذراع، ثم يقبل بها إلى كوعه فيمرها على ظهر إبهامه، ويكون باطن كفه اليمنى لم يمسها شيء من يده، فيمسح بها اليسرى كما وصفت في اليمنى، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، وخلل بين أصابعهما.
وإنما قال: يضع ذراعه اليمنى في بطن كفه اليسرى؛ لأنها هي الماسحة، فاستحب له أن يضع الماسح على الممسوح.
وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم" [1/42] ترتيبا آخر، فقال: يضع ذراعه اليمنى في باطن كفه اليسرى على ظاهر أصابعه اليمنى، ويضم إبهامه إلى أصابعه، ثم يمر بطن يده، فإذا بلغ الكوع أدار إبهامه على ذراعه، وقبض بإبهامه وأصابعه على باطن ذراعه، ثم يمر ذلك إلى المرفق، فإن بقي شيء من ذراعه لم يمر التراب عليه.. أدار يده عليه حتى يصل التراب إلى جميعه.
قال أصحابنا: وما ذكره المزني أحسن.
و (الكوع): هو العظم الناتئ الذي في معصم اليد تحت الإبهام.
و (الكرسوع): هو العظم المقابل له تحت الخنصر.
قال الجويني: ويستحب أن لا يفصل يديه، بل تكونان متصلتين حين يمسحهما إلى أن يفرغ. والأصل في ذلك: ما ذكرناه من حديث الأسلع.
وأما المجزئ من ذلك: فأن ينوي، ويوصل التراب إلى وجهه ويديه إلى المرفقين بضربتين أو أكثر - وسواء أوصل ذلك بيديه أو بخشبة أو بغير ذلك ـ وتقديم الوجه على اليدين. وما زاد على ذلك سنة.

.[مسألة: فيمن ييممه آخر]

وإن أمر غيره فيممه، ونوى هو.. فالمنصوص: (أنه يجزئه، كما يجزئه في الوضوء).
وقال ابن القاص: لا يجزئه، قلته: تخريجا.
هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\35] إذا يممه غيره، فإن كان لعجز.. صح، وإن كان لغير عجز.. فهل يصح؟ فيه وجهان.

.[فرع: الوقوف في مهب الريح]

قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "الأم" [1/42] (وإن سفت الريح عليه ترابا ناعما، فأمر يده على وجهه.. لم يجزئه؛ لأنه لم يأخذه لوجهه، ولو أخذ ما على رأسه لوجهه، فأمره عليه..أجزأه). واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال القاضي أبو حامد: هذا إذا لم يعمد الريح وينو التيمّم، فأما إذا عمد الريح، ونوى التيمم..أجزأه، كما يجزئ في الوضوء إذا جلس تحت ميزاب ماء، فنوى الوضوء، وجرى الماء على أعضاء الطهارة.
وقال القاضي أبو الطيب: يجب أن يحمل هذا على: أنه لم يتيقن وصول التراب إلى جميع أعضاء التيمم، فأما إذا تيقن ذلك.. أجزأه، ولم يحتج إلى إمرار اليد.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأن الشافعي لم يفصل.
قال ابن الصباغ: ولأنه يتعذر وصول التراب إلى الوجه من غير مسح، ولأن الله تعالى أمر بالمسح، وهذا لم يمسح، ولا يدخل عليه: إذا غسل رأسه مكان المسح.. فإنه يجزئه وإن لم يمر يده عليه لقيام الدليل على ذلك؛ لأنه إذا أجزأه ذلك عن الجنابة.. فلأن يجزئ ذلك عن الوضوء أولى، بخلاف التيمم.
قال المسعودي [في "الإبانة": ق\35] وإن أدنى وجهه من الأرض، أو تمعك في التراب، فحصل الغبار على أعضاء التيمم، فإن كان لعجز.. صح. وإن كان لا لعجز.. فهل يصح؟ فيه وجهان.